يظلنا بعد أيام قلائل شهر رمضان المبارك بظلاله الوارفة وخيره العميم. والشهر الكريم موسم بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ولكل فرد بحسب اهتماماته وأولوياته. فمن كان يرجو الله واليوم الآخر وجد فيه فرصة سانحة للاستزادة من الطاعات والعبادات والقربات فترتقي حياته الروحية وتسمو أخلاقه وسلوكياته وتسكن نفسه وتطمئن بمعية الله وتبتهج برحمته وغفرانه. ومن كان يرجو غير ذلك من متاع الدنيا وجد ألواناً من وسائل الترفيه والتسلية والترويح وصولاً إلى إهدار الوقت وإضاعة العمر والانغماس في الشهوات وربما المعاصي.
وكنت كتبت قبل عامين (قبل عهد التدوين) مقالاً بعنوان “محشي رمضان … بالهنا والشفا؟” أشخص فيه أحوال رمضان هذه الأيام، وللأسف، ما يزال محتوى المقال ساري المفعول بنسبة شبه تامة، وهذا بالطبع ليس ثناءاً على المقال بقدر ما هو استنكار وتبكيت للركود والمراوحة في المكان والإصرار على الغي الذي تعاني منه الأمة. ولعل التوقيت مناسب الآن لإعادة نشر المقال في الأدنى.
===================================================
الجمعة 21 شعبان 1429 هـ
الموافق 22 آب/أغسطس 2008 م
محشي رمضان … بالهنا والشفا؟
هذا العنوان ليس وصفة لطبق رمضاني شهي ولكنه توصيف لواقع رمضاني رديء يصعب هضمه وتبيان للهوة السحيقة التي باتت تفصل بين الأهداف السامية التي شـُرع الصيام من أجلها وبين التطبيق العملي لهذه العبادة من قبل المسلمين اليوم. لا شك بأن هذا الواقع الرديء قد أصبح عبئاً على حياتنا الروحية بدلاً من أن يكون مَعيناً لتوهجها ومصدراً لتجددها وأنه قد استحال تقليداً اجتماعياً بعيداً كل البعد عن جوهر الصيام وقيمه ومبادئه.
لقد علل الله سبحانه وتعالى فرض الصيام تعليلاً صريحاً فقال عز من قائل: “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، والتقوى عنوان عريض تندرج تحته فضائل ومناقب وخصال كثيرة للشهر الكريم لا يسع هذه المقالة الإحاطة بها، ولكن حسبنا الإشارة أن من الثمرات التربوية المتوخاة من الصيام هو لجم شهوات البطن والفرج عبر الامتناع عن بعض ما أحل الله بغية ترويض النفس على الصبر والنزول عند حكم العقل ووقايتها من اتباع النزوات والخوض في ما حرم الله. وهذا هو جوهر التقوى، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كثير مثل قوله “لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس”، وقوله “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء” (أي وقاية)، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافةَ أن نقع في الحرام.
وإذا كان الإنسان معجوناً من روح وطين فإن من أهداف رمضان أن يغذي الجانب الروحي، الذي يضفي على الإنسان إنسانيته المميزة له عن باقي الكائنات، فيزيدها توقداً وتوهجاًً، ويهذب الغرائز فيخلص النفس من بعض أوضار الحمأ المسنون التي تثـّاقل بالإنسان إلى الأرض فتقعد به عن الاضطلاع بأعباء مسئولية العبادة الملقاة على عاتقه منذ سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام.
فهل لهذه الأهداف السامية مؤشرات ملموسة على أرض الواقع؟ ها هو ذا رمضان يطرق الأبواب ثانية عارضاً نفحاته الثرة ولفحاته العطرة لمن أحسن استقبالها وأعد العدة لها، ودونكم بعض ظواهره الاجتماعية العامة التي بدأت معالمها بالتشكل مع قرب حلول الشهر الفضيل والتي من المفترض أن تدلل على آثاره المرجوة في القلوب والنفوس المؤمنة!!
أول ما يلحظه المراقب كثرة الإقبال على الأسواق وانتشار التبضع على نطاق واسع. تبدأ هذه الطقوس التسوّقية قبل عدة أسابيع من دخول الشهر الكريم تحت شعار الاستعداد لرمضان. أما الكميات فلا تسأل عنها فهي وافرة للغاية تكاد توحي بأن المشتري يتوقع سبع سنوات عجافاً من القحط والضيق وشظف العيش أو أن مجاعة يتوقع لها أن تضرب دونما إنذار.
يأتي هذا النشاط الاستهلاكي مشفوعاً أو ربما مدفوعاً بحملات إعلانية مركزة وعروض ترويجية مكثفة: اشترِ .. اقتنِ .. ابتعْ .. لا تفوّت الفرصة ..عروض خاصة .. اربح المليون .. احصل على هديتك المجانية .. حقق أحلامك .. جوائز يومية .. شارك في المسابقة .. أرسل رسالة إس إم إس .. تابع نجمك المحبوب .. تمتع ببرامجنا الرمضانية .. شاهد مسلسلك المفضل .. خلـّيك معنا .. استهلك .. استهلك .. استهلك!! قصف إعلاني عنيف يجتال “المؤمن” من كل حدب وصوب، يستحثه ويستنهضه ويدعوه بكل عبارات الترغيب والإغراء والاستمالة إلى الاستمتاع بالترفيه والتلذذ بالطعام والشراب والاستكثار من السلع حتى لـَيُخيل للمرء أننا لسنا مقبلون على رمضان الذي نعرف، شهر الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان بل نحن مقبلون على شيء آخر مختلف، لعله مهرجان “رمضان غير” للتسوّق والتذوق والاستهلاك!! اقرأ المزيد…